المفاجأة أن محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر صار أديباً، كما لو أنه مثل رشيد الضعيف يعتقد أن المأساة تجيء بالأدب. لكن، لئن كان المحافظ لا يستسهل استعمال الكلام والكلمات، لم يختر إلا نوعاً أدبياً صعباً: القصة القصيرة. صحيح أنه سمى ما كتبه «رواية قصيرة»، لكن لا بأس. فهو بالتأكيد ختم التضليل والتحريض، لكنه لم يختم المعرفة بعد.
المهم، أن خضر وقد أقلقه السعي إلى التعبير عن نفسه وأفكاره، المتفردة بلا شك، قرر اللجوء إلى الأدب. وفي 2 نيسان الحالي، نشر عبر صفحته في فايسبوك ما قال إنها «رواية قصيرة من تأليف محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر، مهداة لموظفي القطاع العام ولا سيما موظفي البلديات في المحافظة». ثم أعادت جريدة النهار نشرها في رأس صفحتها الخامسة، الأربعاء في 5 نيسان، من دون التقديم المذكور سابقاً هنا. وقد عنونتها بـ«حكاية ليست من نسج الخيال».
لن أفسد تفاصيل الحكاية. لكن، في «الرواية القصيرة» هذه، 4 شخصيات وراو، بالإضافة إلى كائنات غامضة سماها على التوالي «الفقراء»، «العائلات المحظوظة» و«العائلات الفقيرة». والحال أن هذه الشخصيات، الحاضر منها والغائب، تستحق العرض. ليس لأنها شخصيات تمثيلية فحسب، أي تحمل دلالات أبعد من سياقات حضورها في الحكاية، بل لأن القاص أراد أيضاً أن يضعها عبر لعبته السردية الإبداعية في صراع (باسم الواقع، أكيد)، لمجرد النظر إلى بعضها، كأنها مرايا متقابلة. وهذا أصل الحكاية.
أولاً، السيد كريم
الأسماء ليست عبثية ولا عشوائية. لا بد من التنبه إلى ذلك. وهذه، كما يمكن أن يقال، واحدة من سمات الأدب الملتزم. أو تحديداً أدب الأسماء الملتزم، وهو تفرّع دقيق جداً من الأدب الذي يستند في بنيته السردية إلى الشخصيات، لا الأحداث والحكايات. فكريم هذا ليس شخصاً فحسب، بل هو يمثل آخرين مثله، في موقعه، يملكون السلطة والمال. يمثل فئة أو مجموعة. وتأويلياً (أقول تأويلياً مبالغاً في تقدير الجهد الذي أبذله تجاه نص اختُتم بشرح معناه)، لا بد أن القاص يقصد ما كان يمكن أن يسميها، لو كان يخطب أمام الجموع الغفيرة، «الدول المانحة».
ثانياً، انجو
هي في سياق الحكاية «المدبرة المنزلية الأجنبية»، التي لا تقبض أجراً بـ«الدولار الفريش» فحسب، بل يؤمن لها السيد كريم إقامة مجانية في منزله والمأكل والملبس والتأمين الصحي. وهي مطيعة ولا تخالف قرارات «المعلم»، كما يسمي الراوي السيد كريم في غير هذا السياق. وهذه شخصية بوجهين أو معنيين. وهذا تميز وابداع، سيتكرر في شخصية أخرى لاحقاً، وإن كان بوضوح أقل بكثير. طبعاً، لا يقصد القاص تجميل نظام الكفالة العنصري. أبداً. يتلاعب بالواقع من أجل الأدب، ولأنه الأدب، فحسب. ففي الأخير، في الخاتمة، سنعرف أنه لا يقصد معنى أحادياً. فانجو، كما هي عاملة أجنبية في الخدمة المنزلية، هي NGO أيضاً. رائع جداً.
ثالثاً، صالح
هو «العامل الذي يساعد السيد كريم». إنه، تأويلياً، المواطن -اللبناني- الصالح، الذي لا يزال أجره، رغم انهيار قيمة عملته الوطنية، عند الحد الأدنى لمرحلة سابقة، أي 675 ألف ليرة فقط («أي ستة دولارات شهرياً»). وهو بالكاد يكفيه، بحسابات اليوم، لنفقات يوم واحد أو يومين. وصالح، في موقعه هذا، هو أرض الصراع ومحوره. فالراوي يقارن أحواله، لا بانجو وحدها، بل بمن يسميهم/ن «الفقراء». ويضعه في مواجهة «تعاليم» السيد كريم المجحفة.
رابعاً، الكائنات الغامضة: الفقراء
وهؤلاء بلا أسماء طبعاً وكلٌ واحد، لا يميز بينهم/ن شيء، لكن القاص يحددهم/ن بـ10 أسر. يقول إنها عائلات فقيرة، لكن محظوظة، لأن السيد كريم قرر «لمناسبة شهر رمضان المبارك» أن يساعدها بتقديم وجبات الإفطار لها. عرفنا من القصة محتويات وجبة اليوم الأول، بكل تفاصيلها، ولم نعرف أبداً من يقصد الراوي بهذه الأسر.
خامساً، الراوي
في هذه القصة، الراوي ليس خفياً، ولا يكتفي بالسرد الخارجي. إنه يظهر بين شخصيات الحكاية، وإن في آخرها، ويخاطب القراء مباشرة. عندها، سنكتشف، من دون أي التباس، أن الراوي ما هو إلا المحافظ نفسه، بدوره ووظيفته وسلطته في الواقع. كأن هذا النص ليس غير امتداد له.
سادساً، لا اسم لها
صراحة، لا يوجد شخصية سادسة. لكن السياق الواقعي، الذي يشدد عليه القاص، محافظاً وراوياً، يجعل من تغييبها حضوراً ومعنى تامين، على نحو لا يمكن تجاهله. إنها، كما يمكن القول، شخصية أدبية مُستنتجة. ولأنني لست ببراعة المحافظ في اختيار أسماء دالة، لن أخاطر بتسميتها. لكن دليلي إلى وجودها، وتقصد إخفائها، هو التالي:
المحافظ، بموقعه وسلطته، هو نفسه الراوي. فيقول مثلاً، إن شخصيات حكايته «حقيقيون، كما أن أحداثها تحصل أمام عيني كل يوم». ولا يكتفي بإهداء هذه «الرواية القصيرة» إلى موظفي/ات القطاع العام، بل يدفعنا دفعاً في ختام الحكاية، حين يصير حضوره (باعتباره المحافظ) مباشراً وواضحاً، إلى إدراك أن صالح ليس إلا واحداً من هؤلاء الموظفين/ات الذين يعانون من تدني أجورهم/ن.
وبعد أن عرفنا هوية صالح في الواقع، يصير مشروعاً التساؤل عن معنى ربطه أو جعله في خدمة السيد كريم (لا مؤسسته الحكومية، مثلاً؟)، الذي سبق أن استنتجنا أنه يمثل «الدول المانحة». فهل يعمل موظفو/ات القطاع العام عند الدول المانحة، ويتقاضون منها أجورهم/ن المتدنية هذه؟ هل لهذه الدول سلطة على هذا القطاع وموظفيه وموظفاته؟ إلى آخر هذه الأسئلة.
النص لا يجيب عن هذه الأسئلة، بطبيعة الحال. يدخل القراء في الالتباس المقصود، الذي يخفي بالدرجة نفسها التي يفضح فيها. يتستر على ما لا يريد المحافظ كشفه، بوعي تام. فهو حين أراد تمثيل هذا الواقع بمأساة صالح، الموظف المسكين في القطاع العام، لم يضعه -أقله- في تراتب وصراع مع سلطة إدارته ورأس عمله (المحافظ في هذه الحالة مثلاً؟)، كما يمكن أن يفعل أي أديب يلتزم الواقع. أزاح الراوي الموظف إلى سياق آخر، لا تفهم صلته به داخل الحكاية. ثم أزاح أحد وجهيه -دوريه- عن النص كلياً. وهو وجه الشخصية السادسة المقصية، التي ليست إلا المحافظ/ السلطة.
هل يفترض بنا، الآن، أن نستنتج أن المحافظ الشاب يستغل موهبته الأدبية المستجدة في ممارسة دوره التضليلي؟
نعم، أكيد، من دون أي شك. وجريدة النهار، كما دائماً، تثني وتشجع.